فلسطين- إلهام الشعوب، وبداية مرحلة تحرير الإنسان والأوطان

المؤلف: د. سليمان صالح08.14.2025
فلسطين- إلهام الشعوب، وبداية مرحلة تحرير الإنسان والأوطان

تحمل الأحداث الجارية في فلسطين طيات من الرسائل العميقة التي تنبئ بالمستقبل، غير أن استكشاف هذه الرسائل يتطلب إدراكا راسخا للتاريخ ودراية بالواقع الراهن.

تستطيع هذه الأحداث أن تعزز قدرتنا على استشراف ملامح المستقبل، ورسم استراتيجيات لبناء القوة اللازمة، وتسخيرها في خضم الصراعات الممتدة التي لا تلوح لها نهاية قريبة.

يكمن أحد أهم الدروس المستخلصة من هذه الأحداث في حقيقة مفادها أن الواقع، مهما بلغ من قتامة وقسوة وبشاعة، قابل للتغيير بفضل نضال الشعوب وإصرارها الدؤوب على تقديم تجاربها الفريدة التي تشكل منارة إلهام لكل من يناضلون في سبيل الحرية والكرامة.

لقد كان تحرير الإنسان شرطا أساسيا لتحرير الأوطان، ولا يتحقق هذا التحرر إلا عندما يوقن الإنسان بأنه عبد لله وحده، وأن الله هو واهب الحياة، وهو وحده الذي يمنحه أسباب البقاء، وبالتالي، فإنه مدعو إلى أداء وظيفته الحضارية في التصدي للظلم والطغيان والاستبداد والاحتلال بكل صوره وأشكاله.

من هذا المنطلق، شكلت الضربات الموجعة التي وجهها الشعب الفلسطيني للاحتلال الإسرائيلي صدمة مدوية لكل أولئك الذين استسلموا للواقع المرير، وأثبتت لهم بما لا يدع مجالا للشك أن الشعوب قادرة على تحدي هذا الواقع وتغييره، وبناء مستقبل زاهر لأجيالها القادمة.

في أرجاء العالم العربي، تستر الكثير من المنهزمين المتخاذلين بعباءة الحكمة والوعظ، وأخذوا يلقنون الدروس في أهمية الخضوع والاستسلام، والتركيز على المصالح الضيقة للدول، زاعمين أنه لا سبيل لمواجهة الكيان الصهيوني الذي تدعمه أمريكا وتسخر له كل أسباب القوة التي تجعله متفوقا عسكريا، وتضمن هيمنته المطلقة على المنطقة.

سقوط الأقنعة الزائفة

لكن ثبات الشعب الفلسطيني وإصراره الراسخ على حماية القدس والرباط فيها، ومواجهة المخططات الإسرائيلية الرامية إلى تدميرها مهما بلغت التضحيات، يكشف عن نهاية حقبة طغى عليها الزيف والتضليل والتجهيل، وبزوغ فجر مرحلة جديدة تسمو فيها قيم الشجاعة والصمود والتضحية.

من أبرز نتائج هذه المواجهة البطولية أن آمال الشعوب بدأت تنتعش من جديد، حيث يكشف تحليل مضمون الرسائل التي ينشرها الآلاف من العرب على منصات التواصل الاجتماعي عن وجود رؤية أخرى مغايرة لتلك التي يتم الترويج لها في وسائل الإعلام الخاضعة لسيطرة السلطات.

هذه الرؤية يصنعها المؤمنون بنصر الله، والذين ما زالوا يحملون في قلوبهم آمالا عريضة وأشواقا جارفة لتحرير الإنسان من براثن العبودية لذلك الواقع الكئيب الذي فرضته القوة الغاشمة خلال القرنين الماضيين.

تؤكد هذه الرؤية أن الشعوب قادرة على الصمود في وجه الانكسار، وعلى تجاوز هزائمها للانطلاق نحو مرحلة جديدة من النضال في سبيل تحرير الإنسان والأرض على حد سواء.

ولقد كان تحرير الإنسان مقدمة ضرورية لتحرير الأوطان، ولا يتحقق هذا التحرر إلا عندما يوقن الإنسان بأنه عبد لله وحده وأن الله هو الذي وهبه الحياة، وهو وحده الذي يمنحه أسباب البقاء، وبالتالي، فإنه مدعو إلى أداء وظيفته الحضارية في التصدي للظلم والطغيان والاستبداد والاحتلال بكل أشكاله.

في ضوء ذلك، يمكننا أن نفهم تصاعد الشعور بالتفاؤل والأمل والثقة في النصر، والإصرار على مواصلة الكفاح والصمود، في الرسائل التي ينشرها المؤمنون على وسائل التواصل الاجتماعي.

ولعل هذه المشاعر هي أهم الإنجازات التي تحققت من متابعة مشهد المرابطين في بيت المقدس، وصواريخ المقاومة التي تتحدى قوة إسرائيل الغاشمة.

لم يكن أحد يتوقع أن تعبر الشعوب العربية عن مشاعر التفاؤل والأمل العميق بعد أن نجحت وسائل الإعلام السلطوية في ترسيخ حالة من اليأس والإحباط والاكتئاب والخوف من السلطات التابعة لإسرائيل، فما بالك بقوة إسرائيل نفسها.

الشعب القائد والملهم

هذا التحول الجذري في المزاج العام، والتحرر من براثن الإحباط واليأس، قاده الشعب الفلسطيني الأبي الذي تعرض لأبشع أشكال المعاناة والاضطهاد.

لذلك كان مشهد المرابطين يبعث الأمل في النفوس، فإذا كان أولئك الذين عاشوا كل تلك التجارب المؤلمة يعبرون عن الكرامة والعزة والاستعداد لتقديم التضحيات الجسام لحماية المسجد الأقصى المبارك، فإن كل الشعوب العربية المبتلاة بطغاتها والمقهورة بأنظمتها المستبدة قادرة على الانتفاض والتحرر.

والقيادة لا تقتصر على فرد يتمتع بصفات تؤهله للتعبير عن تطلعات شعبه المشروعة في الحرية والكرامة، بل يمكن أن تكون قيادة جماعية تتمثل في شعب بأكمله يقود الشعوب الأخرى ويلهمها ويشعل جذوة الأمل في نفوسها.

لقد قاد شعب تونس ثورات الربيع العربي، عندما صدح صوته عاليا:

إذا الشعب يوماً أراد الحياة

فلا بد أن يستجيب القدر

ولا بد لليل أن ينجلي

ولا بد للقيد أن ينكسر

واستمر شعب تونس في ثورته المباركة حتى فر بن علي هاربا، فألهم ذلك المشهد المهيب الشعوب العربية التي كانت تحلم بالخلاص من طغاتها. واليوم، يقوم شعب فلسطين بدور الشعب القائد والملهم، حيث اضطر المستوطنون إلى الفرار من ساحات القدس، وتبددت أحلامهم الزائفة في السيطرة عليها.

كما فر المستوطنون من بيوتهم في اللد بعد أن انتفض الفلسطينيون الشجعان، وبدا واضحا للعيان أن خطط الكيان الصهيوني في إخضاع شعب فلسطين الأبي ودفعهم إلى نسيان قضيتهم العادلة قد باءت بالفشل الذريع، ومشهد الهروب هذا يحمل دلالات عميقة ويثير خيال الشعوب، سواء كان هروب الطغاة أو هروب المستوطنين.

نريد أن نشارك في المجد

تضمنت الرسائل المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي الكثير من الدلالات التي من شأنها أن تساهم في بناء المستقبل المنشود، فهناك جموع غفيرة من العرب يتوقون إلى المشاركة في مجد المقاومة الباسلة، ونيل شرف تحرير القدس السليب، ومواجهة القوة الصهيونية الغاشمة.

لكن الأمر لم يتوقف عند مجرد التعبير عن المشاعر على مواقع التواصل الاجتماعي، بل تجاوزه إلى أبعد من ذلك، حيث طالبت قبائل عربية أصيلة كريمة في الأردن بفتح الحدود، مؤكدة أنها قادرة على تحرير فلسطين.

ولا شك أن هناك الكثير من القبائل العربية الأصيلة في جميع أنحاء هذا الوطن الكبير، تتوق إلى الحصول على شرف المشاركة في تحرير القدس، الذي يعد أعظم شرف يمكن أن يناله إنسان.

فالبطولة في هذه القبائل إرث تاريخي عظيم يمكن أن يتحول إلى فعل ملموس، وبالتالي، فإنها قادرة على أن تشكل الطليعة التي تقود الأمة في حركة تحرير ممتدة في الزمان والمكان. وإذا كانت الصهيونية لم تتمكن منذ عام 1948، على الرغم من استخدامها لكل وسائل القهر والترهيب، من أن تجعل أهل اللد والداخل الفلسطيني ينسون هويتهم الأصلية وأملهم الراسخ في التحرير والعودة، فإن كل قوى الاستعمار الغربي لم تستطع أن تجعل القبائل العربية تنسى أصالتها وشجاعتها ونخوتها وبطولتها، خاصة أنها من أحفاد أولئك الفرسان الذين حرروا فلسطين من الاستعمار الروماني في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وتحت قيادته الرشيدة. فهل يعني ذلك أن تلك القبائل العربية قد شرعت في رحلتها الجديدة للقيام بوظيفتها الحضارية المنشودة، وعزمت على الانطلاق لتحرير فلسطين، وهي لا تحتاج إلا إلى فتح البوابات وتجاوز الحدود؟

أنا على دراية كاملة بأسماء القبائل العربية وتاريخها العريق، لكنني تعمدت عدم ذكر تلك الأسماء مع حبي وتقديري لها، حتى لا أنسى أية قبيلة، ولأنني أتحدث عن حالة نهضة شاملة، وبداية انتفاضة مباركة تستعيد فيها القبائل العربية مجدها التليد وتاريخ أجدادها العظام وتنال شرف تحرير فلسطين.

وإذا كان شعب فلسطين قادرا على أن يكون الشعب القائد لمرحلة جديدة من الكفاح والنضال، تماما كما قاد شعب تونس ثورات الربيع العربي، فإن القبائل العربية المنتشرة في جميع أنحاء العالم العربي قادرة على أن تكون القائدة في مرحلة جديدة من تاريخ العرب، ليقوموا بدورهم الحضاري كاملا غير منقوص، تماما كما فعل أجدادهم الأماجد.

ولقد كان فتح فلسطين من الاحتلال الروماني مقدمة لانطلاق المسلمين إلى تحرير مصر وأفريقيا والأندلس، في رحلة نهضة شاملة استمرت لقرون طويلة أقام فيها العرب الحضارة القائدة التي نشرت المعرفة والعلم والأدب والفنون، وكانت الفترة التي سادت فيها هذه الحضارة هي أعظم فترات التاريخ البشري على الإطلاق.

وسيهرب المستوطنون لا محالة!

ماذا يمكن أن يحدث لو فتحت الحدود أمام قبائل العرب لتعيد تجربة الأجداد العظماء في التحرير والبناء الحضاري؟ سؤال يحمل في طياته إمكانات هائلة ويشكل نقطة انطلاق نحو المستقبل، وستجيب عنه تلك القبائل الأبية بعد أن ألهمها صمود شعب فلسطين القائد والملهم.

ويلاحظ أيضا أن المظاهرات الحاشدة في الجزائر قد طالبت منذ زمن بعيد بفتح الحدود، وقد عبر الجزائريون عن كلمتهم الخالدة بأن النصر قريب المنال عندما يتم فتح الحدود.

فشعب الجزائر يمتلك تجربة تاريخية عظيمة في المقاومة والكفاح والصمود، وقد قدم أكثر من مليون شهيد خلال 10 سنوات فقط لكي يحرر الجزائر من نير الاستعمار الفرنسي البغيض، الذي لم يكن يتخيل أحد في فرنسا أنه سينتهي إلى هذا المصير المحتوم.

ماذا يمكن أن يحدث إذا توحدت آمال القبائل العربية في استعادة دورها التاريخي الريادي مع تجربة الجزائر الملهمة لدعم ومساندة شعب فلسطين؟ بلا شك فإن هناك ملايين الأحرار في الوطن العربي قادرون على الانتفاض وتقديم إبداعاتهم وابتكاراتهم في مرحلة الكفاح الجديدة لتحرير فلسطين.

في ضوء ذلك، يمكننا أن نفهم لماذا شكل مشهد المقاومة الفلسطينية صدمة قاسية للطغاة العرب، وجعل المنافقين المطبعين يفقدون قدرتهم على التحكم في أعصابهم!

فالشعوب وحدها هي التي تصنع واقعها المشرق عندما تنتفض وتتغلب على وهنها وخوفها، وتقرر بإرادتها الحرة أن تقاوم وتناضل، وسيهرب الطغاة والمستوطنون لا محالة أمام صمود الأحرار وإصرارهم وإبداعهم المتدفق.

إن شعب فلسطين الأبي يقود انتفاضة جديدة يتحدى فيها القوة الغاشمة للطغاة والاحتلال، وتلك هي أهم دلالات المشهد الراهن التي سيكون لها تأثير عميق على العالم أجمع، وستوضح له أن القوة الغاشمة مهما بلغت من جبروت لا يمكن أن تجعل الشعوب الحرة تخضع وتستسلم.

إن دماء شهداء فلسطين الأبرار تؤكد أن الأحرار في كل مكان سيتمكنون من بناء المستقبل المنشود بعد أن ينجحوا في تغيير ذلك الواقع البائس.

وسوف تكون تجربة شعب فلسطين الملهمة نبراسا يضيء طريق كل الشعوب التي تتطلع إلى الحرية والعدالة، وتتوق إلى بناء الحضارة الإنسانية بصمودها وكفاحها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة